الأول
إصلاح حال البشر في الدنيا
(مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ )
سورة النحل 97.
إن إصلاح الأخلاق، وإيقاظ الضمائر التي تشعر بمراقبة الله عز وجل في كل صغيرة وكبيرة
وماينتج عنه من تطبيق لشرع الله عز وجل في الارض هو أساس الإصلاح الذي تبحث عنه البشرية
وخير مثال على ذلك سرعة استجابة المسلمين في عهد رسول الله لأمر تحريم الخمور عندما نزل في القرآن الكريم،
فقد سارع الصحابة رضوان الله عليه بإراقة ما لديهم حتى امتلأت طرق المدينة بالخمور المسكوبة،
وذلك قبل أن يعرفوا عقوبتها الدنيوية، ونفذوا ذلك بمجرد سماعهم بتحريمها.
ولقد قرن رسول الله في دعائه إصلاح الدنيا بإصلاح الآخرة، فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :
"اللهم اصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي ديناي التي فيها معاشي، وأصلح لي أخرتي
التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر"
الراوي: أبو هريرة المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 2720
خلاصة حكم المحدث: صحيح
وخطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله يوماً الناس فقال وقـد خنقته العبرة
أيها الناس أصلحوا آخرتكم يصلح الله دنياكم، وأصلحوا أسراركم يصلح الله لكم علانيتكم،
والله إن عبد ليس بينه وبين آدم أب إلا قد مات، إنه لمغرق له في الموت
(البداية والنهاية لابن كثير)
وقال الأستاذ جمال سعد حاتم :
ونحن بحاجة إلى ذكر الجنة والنار ليلنا ونهارنا لتستقيم أحوالنا وتصلح أعمالنا،
ولاسيما في هذا العصر الذي طغت فيه المادة وتظاهرت الفتن وانتشرت، وقل الناصح، وضعف الإيمان،
وتزينت الدنيا بزخرفها وزهرتها، وأثقلت الكواهل بكثرة مطالبها، وأرهقت النفوس بتشعب حاجاتها،
حتى صار التحاب من أجلها والتباغض من أجلها، والتواصل لها، والتقاطع منها إلا من شاء الله تعالى،
فكانت أكبر ما يبعد عن الآخرة
(مجلة التوحيد العدد 8/33)
(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7)
أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ( ) يونس 7-8
وصدق من قال :
إعمل لآخرتك ولا تنس دنياك تربحهما معاً، مصداقاً
لما نُصح به قارون
(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا )
القصص 77
الثاني
الاستعداد للقاء الله عز وجل
إن من أهم ثمرات الشعور بقرب الآخرة هو الاستعداد المستمر والدائم للقاء الله عز وجل،
إذ أن قرب الحدث وفجأته تجعل المسلم في حالة تأهب للموت، فيحرص كل الحرص على أن يكون في الأماكن
التي يحب الله تعالى أن يراه فيها كالمساجد ومجالس العلم النافع، كما يحرص على عدم التواجد في الأماكن التي
لا يحب الله عز وجل أن يراه فيها كأماكن اللهو المحرم والأماكن التي يُستهزأ فيها بآيات الله، وتنتهك فيها حرماته
أو الأماكن التي يجهر فيها بمعصية الله، كما يحرص المسلم أن يكون نطقه ذكراً لله تعالى وصمته فكراً وتدبراً
في قدرة الله و نعم الله، حتى إذا قبضه الله عز وجل كان في موضع طاعة تشفع له يوم العرض الأكبر
مصداقاً لما روي عن رسول الله "يبعث كل عبد على ما مات عليه"
ومصداقاً لما روي عنه أيضاً
"يُبعث الناس على نياتهم"
وليس الاستعداد للآخرة والعمل لها مدعاة لترك السعي في الدنيا، فإن العبد ينال أكبر الأجور وأفضلها
عند الله عز وجل إذا كان عمله في الدنيا مقوياله ومعيناً على أداء ما افترضه الله عليه، وطاعته.
الثالث
النجاة من مرض الغفلة وطول الأمل
إن مرض الغفلة وطول الأمل هو المرض العضال الذي اتخذه إبليس في إغواء بني آدم ولا ننسي عندما
أغري أبينا آدم بمعصية الله وأوهمه بأنها ستكون سبباً في خلوده في الدنيا
فقال :
(فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى )
طه 120.
إن نسيان قرب البعث والحساب يسبب خسارة الإنسان المسلم لدنياه وآخرته مصداقاً لقول الله تعالى :
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ.
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ.)
الحشر 18-19
عن ابن مسعود قال :خط النبي خطاً مربعاً وخط خطاً في الوسط خارجاً منه، وخط خططاً صغاراً إلى هذا
الذي في الوسط من جانبيه الذي في الوسط فقال :
"هذا الإنسان وهذا أجله محيطاً به – أو قد أحاط به – وهذا الذي هو خارج أمله وهذه الخطط الصغار :
الأعراض، فإن اخطأه هذا نهشه هذا، وإن اخطأه هذا نهشه هذا"
الراوي: عبدالله بن مسعود المحدث: البخاري - المصدر: صحيح البخاري - الصفحة أو الرقم: 6417
خلاصة حكم المحدث: [صحيح]
وعن عبدالله بن عمر أن رسول الله قال
"نجا أول هذه الأمة باليقين والزهد، ويهلك أخرها بالبخل والأمل"
وعن أنس قال :قال رسول الله
"يهرم ابن آدم وتشب منه اثنتان : الحرص على المال ، والحرص على العمر"
الراوي: أنس بن مالك المحدث: مسلم - المصدر: صحيح مسلم - الصفحة أو الرقم: 1047
خلاصة حكم المحدث: صحيح
وما أصدق الشاعر حين
قال
اذكر الموت ولا أرهبـه....إن قلبي غليــظ كالــحجر
أطلب الدنيا كأني خـالد....وورائي الموت يقفو بالأثر
الرابع
تـزكية النفوس وتهذيبها وتقليل التنافس على الدنيا
إن دوام الشعور بقرب الآخرة والإنتقال إليها له أكبر الأثر في إصلاح النفوس وتهذيبها، ذلك لأن النفوس
تؤثر الدنيا وملذاتها وتطمع في البقاء المديد في هذه الحياة، وقد تهفوا إلى الذنوب والمعاصي،
وقد تقصر في الطاعة، فإذا كانت الآخرة دائماً على بال العباد، فإن الدنيا تصغر في أعينهم، وتجعلهم دائموا
السعي في إصلاح نفوسهم، وتقويم المعوج من أمورهم مصداقاً لما قاله رسول الله صلي الله عليه وسلم :
"أكثروا ذكر هادم اللذات يعني الموت"
الراوي: أبو هريرة المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الترغيب - الصفحة أو الرقم: 3333
خلاصة حكم المحدث: حسن صحيح
وروي عن بعض السلف قوله :
إن ذكر الموت إذا فارقني ساعة فسد على قلبي، وقال آخرون من أكثر ذكر الموت أُكرم بثلاث :
تعجيل التوبة وقناعة القلب ونشاط العبادة،ومن نسي الموت عوقب بثلاث :تسويف التوبة وترك الرضى
بالكفاف والتكاسل في العبادة وقال القرطبي : أعلم أن ذكر الموت يورث استشعار الانزعاج من هذه الدار الفانية
والتوجه في كل لحظة إلى الدار اآخرة الباقية.
وقال أبو الدرداء :من أكثر ذكر الموت قل فرحه وقل حسده.
وعندما تزكو النفوس سيكون المجتمع أقرب ما يكون إلى مجتمع المدينة الفاضلة التي تتآلف قلوب ساكنيها
على محبة الله، وتزول تنافساتهم على أعراض الدنيا الزائله، ويسيرون ركباً واحداً في طريق مرضاة الله
تبارك وتعالى وكانوا أهلا لشهادة رسول الله صلي الله عليه وسلم لهم بالكرم والكياسة
الذين ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة.